الصفحات

الجمعة، 22 أكتوبر 2010

عمارة رمسيس..!

رسائل احتجاج فجائية بعثتها ساقاي على هيئة أنين تصاعد إلى رأسي، مما جعلني أتنبه إلى أني أنهكتهما معي في وصلة تمشية تعدت الساعة والنصف!
"حاضر حاضر، ح نريّح شوية، بس استنوا بس لما نلاقي مكان نقعد فيه.."
التفاتة سريعة مني يميناً ويساراً، جعلتني أكتشف أن مشيي الطويل أوصلني إلى جوار أشهر بناية في وسط البلد..
عمارة رمسيس..
هذه البناية الضخمة التي لا يكاد ينفض الزحام من حولها ليلاً ونهاراً..
أفواج بشرية لا أعلم من أي فج خرجت، كي تؤدي طوافها العشوائي حول هذه البناية العتيقة..
لم يدم وقوفي ثوانٍ معدودة حتى وقعت عيناي على بقعة جيدة تصلح للجلوس..
عتبة رخامية بمدخل لفرع أحد البنوك الكائن بناصية عمارة رمسيس والمطل من الجهة المقابلة على مسجد الفتح الشهير..
أسرعت بالانسلال من بين جموع المتخبطين لأجلس على العتبة الرخامية مستنداً بظهري على باب البنك المغلق..
..
"يا سلام، موقع إستراتيجي تمام!"..
هكذا خطر على بالي، فمن مكاني هذا تكشف عيناي مساحة ضخمة من الميدان، مما يجعلني أستمتع إلى جانب فترة استراحتي بتأمل خلق الله الغادين والرائحين..
..
"هو في أجمل من كده؟ الواحد بيـ.."
ينقطع حبل أفكاري بصوت بكاء على مقربة مني، فالتفت سريعاً إلى مصدر الصوت لأكتشف أن صوت البكاء مصدره طفلة صغيرة تقف بجوار رجل وامرأة، كان واضحاً أنهما والداها..
..
تطلعت بفضول أكبر إليهم محاولاً تبيّن سبب بكاء الطفلة الصغيرة التي لا يزيد عمرها عن الأربعة أعوام، فوقعت عيناي على قبضة أمها التي كانت تضغط بشدة على يد طفلتها الصغيرة، وتصيح فيها بلهجة وعيد:
- "حاضر يا (سلمى)، لما نروّح البيت!"
ثم أقرنت قولها بقرصة قوية بوجنة الطفلة الصغيرة التي تعالى صوت بكائها بشدة، وبعينين مغرورقتين بالدموع تطلعت البنت إلى أبيها الواقف بجوارها بنظرة لم أفهم معناها جيداً، مما دفعني لأتطلع إليه بدوري أنا الآخر منتظراً ردة فعله بلهفة..
بنظرة صامتة أخذ الرجل يتطلع إلى ابنته، فابتسمت في أعماقي وقلت..
"آه اللعبة التقليدية.. الأم تلعب دور الصارم القاسي والأب هو الليّن الحنون.. واحد يضرب والتاني يلاقي!"
..
رجعت ببصري إلى البنت الصغيرة التي ما زالت تقف متطلعة إلى والدها..
ثم انتفض جسدي في عنف..!
..
صفعة هائلة هوت على وجه البنت الصغيرة انتزعت جسدها الضئيل انتزاعاً من الأرض وكادت أن تطير بعيداً في الهواء، لولا أن أمها كانت لا تزال تقبض على يدها بإحكام..!
اتسعت عينايّ في ذهول وأنا أنظر إلى الرجل الذي أسرع بدس يده في جيب سرواله وكأنه شعر بضرورة إخفاء سلاح الجريمة التي ارتكبها لتوه، ثم نظر إلى ابنته قائلاً ببرود:
"عشان تبقي تسمعي كلام ماما من أول مرة!"
أخذت أنقل بصري كالمخبول إلى الأم تارة وإلى الأب تارة أخرى وأنا لا أصدق ما حدث أمام عيني..!
..
لا أعرف كيف آتت القوة البنت حين تمكنت من تخليص يدها الصغيرة من يد أمها، ثم قفزت خطوتين مبتعدة عن والديها لتقف على مقربة مني..
اعتراني قلق شديد على البنت الصغيرة فقد توقف بكاؤها تماماً وتحجرت عيناها ناظرة إلى شيء مجهول..
ثم كاد قلبي أن يقفز من بين ضلوعي عندما بدأ جسد البنت الضئيل في الارتعاش الشديد وأخذ صدرها يعلو وينخفض في عنف مجاهداً لالتقاط أنفاسٍ متقطعة بصعوبة شديدة!
..
ازدحمت الأفكار في رأسي، وشلت لساني عن النطق لبرهة من الوقت، إلى أن تحرر أخيراً، وهتفتُ في الطفلة وكلي توتر:
- "مالك يا (سلمى)، في إيه بس؟"
تطلعت الطفلة إليّ بنظرة خاوية دون أن يتوقف جسدها عن تشنجاته العصبية..
تصاعد توتري بشدة، فلم يكن الأمر يحتاج مني أن أكون طبيباً نفسياً كي أستنتج أن الطفلة تمر بأسوأ لحظات حياتها النفسية صعوبة..
..
رغماً عني تسلل إلى صوتي الحنان الشديد الممتزج بالشفقة وأنا أسأل الطفلة الصغيرة متطلعاً إلى عينيها مباشرة:
- "إنت زعلانة من إيه بس يا (سمسمة)؟"

لثوان لم أتلق أي استجابة من (سلمى) قبل أن ألحظ بصيص حياة تدب في عيني الطفلة الصغيرة، التي أتت بأغرب شيء حدث في حياتي على الإطلاق..!
..
فجأة وبدون أي توقع مني، وجدتُ (سلمى) تلقي بجسدها تجاهي فاتحة ذراعيها الصغيرين الذين التفا حول عنقي، ثم انفجرت الصغيرة في البكاء..
..
ارتج كياني..!
مجموعة مختلفة من الأحاسيس الغريبة التي لم أختبرها من قبل أخذت تدفق في خلايا جسدي..
أهذه هي مشاعر الأبوة التي يتحدثون عنها؟
لا أستطيع أن أجزم، فأنا لم أرزق بأطفال بعد حتى أعرف تلك المشاعر..!
..
إذن هي مشاعر العطف التي تأتي من الأخ الأكبر؟
لست أدري أيضاً..
فأنا أصغر إخوتي، وبطبيعة الحال لم أجرب إحساساً كهذا..

إذن ما تلك الأحاسيس الغريبة التي سيطرت علي؟!
كل ما أعرفه هو أنه تملكني مزيج عجيب من مشاعر متباينة..
حنان.. شفقة.. عطف.. اعتذار..
اعتذار..؟!!
أجل، اعتذار
اعتذار من هذه الطفلة البريئة التي قُدر لها أن يكون والداها بهذه القسوة المرعبة!
اعتذار لأني لا أملك سُلطة تجعلني أزج بهذين الوحشين في السجن مدى الحياة.. 
..
اخترقت يد قوية المشهد الروحي الذي عزلني تماماًً عن صخب طوفان البشر المحيط بنا، لترتد إليّ حالة الوعي الشعوري وأنا أرى اليد القوية تجذب (سلمى) من ذراعها، وتسحبها بعيداً عني لتنفك حالة التداخل الروحي بيني وبين الطفلة الصغيرة.. 
..
ابتعدت (سلمى) وصوت بكائها يبتعد معها..
وأنا ما زلت في جلستي أفكر في المفارقة الغريبة..
هي كانت (سلمى) لكن مؤكد أن حياتها لن تكون سالمة..
على الإطلاق..!

هناك 9 تعليقات:

  1. يا ربى !!
    انا كنت ضد ان يبقى فيه حد قاسى وحد طيب
    عشان الطفل مايكرهش باباه ويحب مامته مثلا او العكس

    لكن بالنسبة ان الاتنين بالمنظر ده !! ف مش عارفة بجد
    الحمد لله انك قدرت تديها احساس الامان ولو للحظة صغيرة

    يمكن ده يخليها تحس احسن :S

    ردحذف
  2. يمكن.. :)

    ..
    شكراً يا أنيكا على مرورك وتعليقك.

    ردحذف
  3. انا كنت حشتمه

    عارف ان رد الفعل ده حماقة بمقاييس الزمن ده
    بس لازم احرق دمه و اهزئه قدام البشر دول كلهم

    ردحذف
  4. شكراً يا (ميدو) على تعليقك.. :)
    ..
    وجهة نظر برضه، بس يا ريت كانت تجيب نتيجة..!

    ردحذف
  5. انا مش عارف الواحد ازاى ممكن يضرب ابنه بالقسوة دى ...وكان الطفل بيكون هم على اهله .
    زمان لما كنت صغير وكنت اطلب حاجه من امى كانت تقولى انشاء الله هجبهالك فضلت تقول الكلمة دى لحد ما فى يوم قلتها اختى متقوليش انشاءالله عشان انتى لما بتقولى كده مبتعمليش حاجه . لما كبرة شوية وعرفت الحياة شوية شوية عرفت ان امى اجمل شىء فى حياتى كانت بعمل كل ما فى وسعها عشان نعيش فى احسن حال ضحت بكتير اوى ..
    دلوقتى ربنا اراد انى ابعد عنها وكل يوم اكلمها فيه ببقى هموت وارتمى فى حضنها اكتر شىء بخاف منه انها يجرلها حاجه وانا عايش نفسى اموت قبلها .
    البنت دى اكيد هتعمل حاجات كتير لما تكون قادره بس محديش يلومها ولا يطلب من الرحمهعشان فاقد الشىء لا يعطيه

    ردحذف
  6. تحفة بجد
    واحلى ما فى الموضوع اسلوبك اللى بيخلينى متشوق لغاية لحظة النهاية
    وكمان فى حاجة حلوة جدا فى اسلوب كتابتك وهى انك مش بتدخل فى الموضوع مباشرة وبشكل غير ممل بالعكس كانك بتاخدنى فى رحلة لاكتر من مكان فى نفس الوقت
    ربنا يوفقك

    ردحذف
  7. i have no words to say !!

    ردحذف
  8. أسلوبك في الكتابة رائع .. تعاطفت مع الموقف حتى دمعت عيناي ..

    فقط الشيء الوحيد الذي آخذه عليك عدم اختيار عنوان مناسب .. أبدا .. من وجهة نظري الشخصية :)

    ردحذف
  9. الصديقة أسماء
    ..
    بالغ شكري على تعليقك.. ووجهة نظرك محل اعتبار ! :)

    ..
    باقي الأصدقاء..
    ..
    ربنا يخليكم يا رب :)

    ردحذف